رحيل القمر
لا أظن أنني عشت حياة سعيدة .جل الذين تعلقت بهم خذلوني لمجرد إنني تعثرت مرة أو مرتين .كنت أعتقد أن الذين يحيطون بي مجرد أقواس وحلقات تكمل حياتي عن أخرها .لذلك لم أستطيع أن أقبل الفقد بسهولة .هناك من رحل عنا بهدوء .تسائلت مرات عديدة إلى أين ذهب ولكن لم يجرأ أحد أن يجيبني بصراحة .وهناك فتيات كبرن معنا أخذتهن المواكب إلى رحلة جديدة .لم يغب عن بالي ذلك المشهد الرهيب .مازلت أقرع نفسي كنت السبب إذ أشرت لهم على الطريق .كانت الساعة قرابة الخامسة مساء . بدأ الكون يفتح مسامه المقفلة .مرح هنا .وصراخ هناك .وشيء من الطبيعة يطبع ظاهر الحياة بصخب جميل .لا يوجد طرق معبدة يمكنها أن تختصر المسافات .الوعور كانت كثيرة ولطالما قطعناها مشيا على الاقدام .رحلة شاقة في كل مرة .لكننا حتما وصلنا ولازلنا على درب الوصول .
الطريق الوحيد الذي يبدو لحاه رطب وطيب ذلك الذي يشق مزارع العنب.تبدو الطريق كأنها جرت قلم.وعلى الضفتين تنساب الاوراق الخضراء حتى تلامس دواليب العربات التى كانت تجرها الاحصنة .وكما يبدو لناظر إليها إذا ما حاول التدقيق في المشهد كله .فإن عناقيد سوداء وبيضاء تحجب نفسها وتفضحها شمس النهار .كثيرون هم الذين يستوقفهم المكان سواء راجلين أم ركبان.لا شيء يمنعهم من سحب العناقيد وتناولها ..
ذلك اليوم مرت سيارة بيضاء .نادرا ما كان يحدث ذلك .الافق لا يأتينا إلا بما ننتظره .نحن لا ننتظر إلا الغيم ومن بعده المطر .لم نكن مغلقين محتجبين عن العالم لكن العالم أراد لنا ذلك .حتى الذين رحلوا عنا وقد وعدوا بالعودة لم يعودوا .الحياة صعبة وقاسية ونظيفة أيضا .لم تدنسها القمور الغاربة.ولم تدنسها القشور ولا البحور. كانت الدنيا بخير وكنا مادة يلتقطها عابري السبيل .يستوقفهم جمالها وجمالنا يشبعون فضولهم ويرحلون ..أقتربت السيارة صرت أتتبعها بأبهامي .ها قد مرت على شجرة الخروب .وجدتني أصرخ من أعماقي ليتها تمر بهدوء لربما أفزعت قطيع الماعز.أكاد أشعر بالغضب .لماذا يفسدون علينا سكوننا .ما الذي جاء بهم.ليس لدينا ما يستهويهم حقيقة .أهم الغرباء مثل كل مرة .الحمد لله لقد توارت الان ها قد سحبها الوادي .غويط لكنه لا يغدر.سمعت عن البحر أنه يغدر بكل من يرتاده عاريا .هذا الوادي. لا يقبل الفجور .يحب الستر لذلك هو ودود . جميل .لا يمكن أن يجلب لنا إلا البقاء .خرجت ألان إلى أين تمضي يا ترى .حتما أنها تسلك درب المقبرة.هتفت في داخلي سلام على جدي إذا كسر صمته وسكونه صخب غريب .عاش ومات وهو يركب الجمل .كما توقعت ها هي تجتاز المقبرة وقد بدأت تسير ببطء شديد .لم يرفعوا أكفهم كما جرت العادة ويقرأون الفاتحة على الارواح المسكونة في الجوف .جميعنا سنحتاج لمن يقرأ علينا الفاتحة لأننا لسنا معصومين من الخطايا ربما يرفع الله عنا البلاء بدعوة عابر سبيل . على التبة العالية بضع بيوت متفرقة .الشيخ عبدالسلام المحجوبي .وخليل الصادق والمدني رافع الساهي هؤلاء استوطنوا الرقعة التى إختلف عليها الناس يوم قام موظف البلدية بتوزيع الارزاق.على مر السنين يشقي الناس ويكدحون ثم تمهر الحكومة نتاجهم بخاتمها الفضيع .نحن مجرد خدم السيد الوالي ومدير الناحية ورئيس المركز.هؤلاء الرجال جاء بهم الطوفان الاول .حين سألهم المختار قالوا نحن من بلد الرطانة.سكنوا الأن أقاموا بيننا صار لهم وتد لا أحد يحسدهم على ذلك .كل النعم لله .
توارت .ها قد ظهرت من جديد .يبدو أنها تقصد حينا .يا ألهي الطريق ضيق من هنا هل أستوقفهم حتى يدوسون على شجرة الكرم ؟ .غرسها والدي قبل أعوام إنتظرنا أن تجود وقد فعلت.لا يمكن التفريط فيها ربما اضطررت إلى الوقوف في وجه السيارة .مهما كانت وجهتها .عليهم أن يحترمون تعلق قلوبنا بالارض..نحن لسنا من الذين يتجاهلون أعضائهم .هذه الشجيرات مثل أعضائنا مثبتت في أجسادنا .إذا إحتملنا ذلك سوف نعيش بعاهاتنا .لقد إقتربت سوف أستعد لمقابلتهم .هذا هو السائق إذن شاب في الثلاثين .إلى جواره تجلس إمرأة مسنة.وفي الخلف تجلس شابتان جميلتان لم يعجبهما منظري .كنت ألبس بدلة فضفاضة وأمسك بعصاي التى لا ترحم.إحداهما كانت تلوك العلكة وقد مدت يدها و طلبت أن أخذ منها مزود صغير لكنني رفضت .شتمتني وقد تجاهلتها عن عمد ..قال الشاب .أين يقع بيت العم سعيد .انتابني شعور غريب ذكر لي الاسم .العم سعيد ليس به شئ .رجل مسكين .ليس له اولاد .لديه بنت واحدة تسمى مبروكه في العشرين من عمرها .جميلة محببة لدى الجميع .كثيرا ما كانت تنادي علي حتى وإن كنت بعيدا اسمعها تقول عبدالفتاح تعال وعندما أصل إليها كانت تمدني بفطائر العسل ..أردت أن اتسائل عن غرض الزيارة لكنني تراجعت وأرشدتهم عن الطريق ..وها قد رحلت مبروكة .كان الموكب مهيبا لكنه ترك عاهة في قلب من أحبها...
على غالب الترهوني
بقلمي