طواحين 40…
لا أدري كان لدا أمي احساس غريب .دائما تذكرني أن ابي سيعود .ولكن متى ؟ حتى عندما أسألها لا تجيب ..كان يحذوها الآمل دائمآ. لدينا بضع دجاجات نقتات منها وليس لدينا عم ولا خال ليزورنا عند الحاجه .لذا اعتدنا كلانا على الوحدة .قلت لها مرة .هل تصدقين انني نسيت ملامحه .؟ ضربت خدها بكفها . وردت بنبرة حزينة . لم يمر زمن طويل على غيابه .كيف نسيت ملامحه .فيك شيء منه .حين يفكر تغور عيناه في محجريهما .وحين يغضب تختفي الهالة السوداء التي تحيط بهما .كان يدخن بشراهة وبانفاس متلاحقة .كان دائما يلاحق تموج الدخان في الهواء.كما لو كان يقرأ الهالات البيضاء.لا يحب من احد ان يقطع حبل تجلياته .صبور جدا ولا يهتم للعالم من حوله .يحب ان يتلو قصائد ابائه.ولكن وراء هذا العالم الغريب الذى صنعه لنفسه .قلب طيب يحمل في طياته شفافية نادرة .مثله لا يمكن لاحد ان ينساه بسهولة .عليك ان تذكره دائما.دع احلامك تتجه اليه حتى التقية ذات ليلة.
ها قد انتصف النهار من جديد .خرجت استطلع المسارب كلها لعله سلك احداها وعاد .حتى السراب اختفي أمام نسائم الشرق .كان الافق ينذر بالغياب .ثمة قافلة تحمل امتعتها وتتجه نحو القصر البعيد حيث تزحف مروج دوغة العظيمة بأهلها وارضها .يوما ما كانت هبة النهر الذي يشق نهديها ويمضي الى الشمال .امتد على اثره ارخبيل جمع حوله سكان الواحات الذين انهكهم العياء .نصبوا خيامهم على حواشي النهر .والمرج يحيط بهم من كل ناحية يقيمون لأيام حتى تنتعش قلوبهم ثم يواصلون طريقهم الى الخضراء.بعضهم يغتسل على الضفة الخالية وما ان يحل الفجر حتى يصلي صلاة الاياب تحت الاقواس التي ارتفعت عليها الكنيسة المبجلة .تتبعت خطاهم حتى اختفوا
وراء الحجب .سكان الخرمة الذين يزحفون بدوابهم في الصباحات الاولى يعودون الان مكللين بالضفر .في الموسم القادم سيتحكمون بأسعار الاضاحي .ذات عام كان بائعا جوالا اقترح على سكان الحي ان يتوسط لهم عند مالك مزرعة الزيتون ليلتقطوا رزقهم .في اليوم التالي هجمت القرية كلها .انا وامي كنا ضمن النفر الذي زحف على مزرعة سراكوزا.عند المساء تركنا نصف ذخرنا لاننا لانملك دابة تعيننا على الحمل الثقيل .ذلك اليوم حاولت ان افهم من يملك هذا العالم ؟ ما وراء هذا النعيم رغم اننا جوعا.لكننا جزء من التفاصيل الكثيرة مثلما يملك البرغوثي بيت كبير .نملك نحن بيت صغير .لا احد ينافسنا على حقنا الشرعي ان نعيش ونرحل بصمت .
كنت ارى انسياب خيوط اشجار الزيتون التي تكاد تزاحم بعضها في فرح بهيج .تتماهى مع تضاريس الارض حتي يوقفها الطريق . ولكن الان افهم ما يدور حولي الارض هي الارض .والاشجار هي الاشجار وانفاس العالم لا يحدها افق .
ابي لم يعود .هل اغرته الطواحين وعاد اليها من جديد .اعود واقول الطواحين عنيدة كما يقول عنها جدي السايح ومكابرة .لذا سوف اطلب من امي ان تأجل سفرنا الى القصيعة حتى نهاية الاسبوع لعل والدي يعود على ظهر سحابة زرقاء هذه المرة كما يسافر الاولياء..
على غالب الترهوني
بقلمي
